التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
استلم السلطان مصطفى الثالث الحكم وهو في الأربعين من عمره، حكم ستة عشر عامًا كاملة، تقلبت الأحوال في فترة حكمه تقلبًا عظيمًا.
السلطان مصطفى الثالث (1757-1773م)
استلم السلطان مصطفى الثالث الحكم وهو في الأربعين من عمره[1]. حَكَم ستَّة عشر عامًا كاملة. تقلبت الأحوال في فترة حكمه تقلُّبًا عظيمًا، فعلى قدر الهدوء الذي شهدته الدولة في بدايات حكمه شهدت الدولة أعنف اضطراباتها في السنوات الأخيرة من هذا الحكم، وعليه فإننا يمكن أن ندرس تاريخ الدولة العثمانية في هذه الفترة التي حكمها مصطفى الثالث من خلال مرحلتين؛ الأولى تقع في عهد «الثبات النسبي»، وبها يُخْتَم هذا العهد، أما الثانية فهي بداية العهد التالي، وهو عهد «الانهيار الخفي»، وسنتحدث عنها لاحقًا.
المرحلة الأولى من عهد السلطان مصطفى الثالث (1757-1768م)
وختام مرحلة «الثبات النسبي» للدولة العثمانية
تعتبر هذه الفترة من أكثر فترات الدولة العثمانية هدوءً في القرن الثامن عشر، وظهر فيها ثبات الدولة بشكل بارز، ولكن ستتطور الأحداث في نهايتها بشكل غريب، مما سيُسْلِم الدولة إلى طور جديد من أطوارها. هذا التطور له جذور، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وكثير من هذه الجذور نشأت، أو تطورت، في هذه الإحدى عشرة سنة الأولى من عهد السلطان مصطفى الثالث. يمكن أن ندرس هذه الفترة تحت العناوين التالية:
الإصلاحات الداخلية:
كانت لدى السلطان مصطفى الثالث ميول إصلاحية جيدة[2]، وقد ساعده على تنفيذ بعض هذه الإصلاحات وجود الصدر الأعظم القدير خوجة محمد راغب باشا[3]، الذي استمر في الصدارة حتى موته في عام 1763[4]، فكان سببًا في استقرار طيب في الدولة.
اهتم السلطان وصدره الأعظم بالعدل وتخفيف الأعباء على المواطنين[5]. عملت الدولة على استقرار قيمة العملة، وشجعت التجارة. تمَّ بناء صوامع كبيرة لتخزين الغلال، وكذلك تمَّ الاهتمام بمشاريع توصيل المياه لكل مكان في إسطنبول. زادت المنشآت المعمارية بشكل كبير، وأعيد ترميم، وأحيانًا البناء بالكامل، للأبنية القديمة المهمة، ومن ذلك على سبيل المثال مسجد السلطان الفاتح[6]. اهتمت الدولة كذلك ببناء مستشفيات حجر صحي على الحدود للاطمئنان على عدم دخول أوبئة من خارج الدولة[7]، خاصة أن هذه الفترة كانت تشهد ازديادًا فوق المعدلات الطبيعية للطاعون والأمراض الأخرى[8]، ولعل ذلك بسبب الحروب العالمية الكثيرة آنذاك.
من المشاريع التي بحثتها الدولة لكنها لم تتمكن من تنفيذها توصيل نهر دجلة بالبوسفور، وذلك عن طريق حفر عدة قنوات، واستخدام الأنهار الطبيعية في الأناضول[9]. كان الهدف من هذا المشروع عظيمًا؛ إذ إنه لو تحقَّق فسيتم إيصال الخليج العربي (حيث يصب نهر دجلة)، ومن ثم المحيط الهندي، بالبوسفور، ومن ثم البحر المتوسط، وتكون الدولة العثمانية قد سبقت فكرة مشروع قناة السويس بأكثر من قرن! لكن يبدو أن الإمكانات لم تكن متوفرة لتنفيذ مثل هذا المشروع الضخم فلم يتم.
يؤخذ على الدولة العثمانية في مسألة الإصلاحات التي نسمع عنها كثيرًا في سِيَر بعض السلاطين والصدور العظام أنها غالبًا ما تكون محدودة بإسطنبول، وإذا توسَّع مجالها فإنها تشمل غرب الأناضول، وشرق البلقان؛ أي الأماكن القريبة من العاصمة، وهي الأماكن ذات الأغلبية التركية، ونقول التركية، وليس المسلمة، لأنه في الواقع لم نجد مثل هذه الإصلاحات في الولايات المسلمة البعيدة عن إسطنبول، وتحديدًا في الولايات العربية، وهذا لا شك سيكون له أثر سلبي على هذه الولايات، ثم على الدولة ككل، في مرحلة مقبلة.
العلاقات مع بروسيا:
من الأمور المهمة في عهد السلطان مصطفى الثالث بدء العلاقات الدبلوماسية الجادة مع بروسيا الألمانية. من الجيد أن يبدأ هذا السلطان هذه العلاقات، ولكن من المؤسف أن الدولة تأخرت إلى هذا التوقيت لتحقيق ذلك. لم يكن عند الدولة العثمانية في قرون الثبات الوعي السياسي العميق الذي يجعلها تدخل بقوة في لعبة «توازن القوى» التي احترفتها أوروبا، وهذا ضيَّع عليها فرصًا كثيرة، ولنذكر ما قلناه سابقًا عن تضييع الدولة لفرص التعاون والتحالف مع بولندا والسويد. الآن تتواصل الدولة مع مملكة بروسيا القوية. وُلِدَت هذه المملكة عملاقة. كانت النشأة في عام 1701م، ومنذ ذلك التاريخ والمملكة مؤثِّرة بقوة في الأحداث الأوروبية والعالمية. كان الجيش البروسي -كما مرَّ بنا- من الجيوش المعتبرة للغاية.
لم يكن قويًّا فقط؛ إنما كان حريصًا على التحديث المستمر مما جعله نموذجًا للجيوش المثالية. -أيضًا- اهتمت بروسيا بالتقنيات العلمية في كل مجال، بالإضافة إلى الفنون والآداب والعلوم الفكرية. زادت قوة المملكة جدًّا بداية من 1740م بعد ولاية فردريك الثاني المعروف بفردريك العظيم the Great Frederick II، وهو من أقوى ملوك أوروبا آنذاك، وقد نقل البلاد نقلة نوعية على كل المستويات، وخاصة في الناحيتين السياسية والعسكرية[10]. كان فردريك العظيم يريد تحالفًا ضد النمسا وروسيا، وهما ألدُّ أعدائه، وحيث إنهما عدوتان للدولة العثمانية كذلك صار التحالف بين بروسيا والعثمانيين منطقيًّا. عقد الطرفان معاهدة دفاع مشترك في عام 1761م[11]. كانت الدولة العثمانية تريد فوق التحالف تحديثَ جيشها وأنظمتها، وكانت لديها الرغبة في إرسال مبعوثين إلى برلين Berlin بدلًا من باريس لعدم اطمئنانها لصداقة الفرنسيين، خاصة أن فترة مصطفى الثالث شهدت فتورًا في العلاقات العثمانية الفرنسية[12]. تم التبادل الدبلوماسي بين الدولة العثمانية وبروسيا بدايةً من عام 1763[13]، وستظل العلاقة بين الدولتين في معظم الأحيان قوية.
ولاية كاترين الثانية على روسيا (1762-1796م):
تعتبر ولاية الإمبراطورة كاترين الثانية، وهي المعروفة بكاترين العظمى Catherine II the Great، على روسيا نقطة تحوُّل في تاريخ هذا البلد، فهي واحدة من أعظم حكام روسيا في كل تاريخها، إن لم تكن أعظمهم مطلقًا! لقد كانت شخصية استثنائية بحقٍّ، وقد وصلت إلى هذا المجد على الرغم من كونها ألمانية[14]، ولم تكن تحسن الحديث باللغة الروسية، فضلًا عن كونها بروتستانتية، وتحوَّلت إلى الأرثوذكسية للتمكن من حكم روسيا[15]! إنها زوجة القيصر الراحل بطرس (بيتر) الثالث Peter III، وقد انتشلت البلاد بعد ولايتها من لهيب الحرب الأهلية، ونقلتها إلى السيادة العالمية. في ظل حكم هذه الإمبراطورة اتسعت مساحة الدولة بشكل عظيم، فضمت القرم في الجنوب، وألاسكا الأميركية في الشرق، وفتتت اتحاد ليتوانيا-بولندا في الغرب.
صار الجيش الروسي من أعظم جيوش العالم؛ عددًا، وعدةً، وفكرًا، وتخطيطًا، كما صار الأسطول الروسي، وللمرة الأولى في تاريخ روسيا، من الأساطيل العالمية المشهورة. اهتمت بالتعليم، وتحديث أنظمة الدولة، وارتقت بالفنون والآداب، حتى صارت روسيا منافسةً لفرنسا في هذه المجالات. انتعش الاقتصاد في زمانها، وكثرت المشاريع العملاقة؛ سواء في مجال الزراعة، وهو الأهم في روسيا، أو التجارة، أو الصناعة. هذا كله غير إصلاحاتها في الأنظمة الإدارية في الدولة، وتعديلاتها التشريعية المؤثرة، فضلًا عن قضائها على الفساد[16][17]. كانت ولاية هذه المرأة على روسيا في هذا التوقيت إيذانًا بوضع روسيا بقوة في الخريطة العالمية، ولم يعد ممكنًا للقوى الأوروبية أن تأخذ قرارًا دون حساب ردِّ فعل روسيا، كما كانت ولايتها إيذانًا باختلال ميزان القوى الروسي-العثماني لصالح روسيا، وللمرة الأولى في تاريخ العلاقة بين الدولتين.
ازدياد الأوضاع المضطربة في الولايات العربية:
إنها المشكلة المزمنة في قصة الدولة العثمانية! لم يشعر العرب في كل تاريخ الدولة العثمانية بانتمائهم الحقيقي لها، وهذا يرجع لأسباب كثيرة؛ منها أن انضمام كثيرٍ منهم للدولة كان رغمًا عن أنوفهم، كحالة مصر، والسودان، والحجاز، واليمن، والشام بأقاليمه الأربعة؛ سوريا، ولبنان، وفلسطين، والأردن، أو لاضطرار لحظي ما لبث أن زال، كحالة الجزائر، وتونس، وليبيا، والعراق، حيث كانت هذه الأقطار تحت تهديدات عدوانية من دول أوروبا، أو إيران، فطلبت النجدة، ثم صارت جزءًا من الكيان العثماني دون اختيار. كان من الممكن ألا يبحث أحدٌ عن أسباب الانضمام إلى الدولة العثمانية لو كانت الشعوب تعيش في استقرار، أو كانت لا تعاني من التهميش. الواقع أن الاهتمام الأجلَّ في الدولة العثمانية كان بإسطنبول، والأناضول، وشرق البلقان، وهذا قاد الشعوب إلى عدم الاكتراث بالحاكم الجديد الذي يحكمها، وهل هو من العثمانيين، أو المماليك، أو العرب، أو غيرهم من الأعراق، ولم تكن الشعوب حقيقةً تفكِّر في حتمية الوحدة الإسلامية الشاملة، كما أنها كانت غير معنية بمسألة «الخلافة الإسلامية»، فهذه القضية لم تكن مطروحة إعلاميًّا أو دينيًّا؛ إنما كان المطروح هو الارتباط بالقَويِّ الذي يستطيع توفير الغذاء، والأمان، والحماية. نقول هذا الكلام كمقدمة لشرح أحوال البلاد العربية في هذه المرحلة التي نحن بصددها؛ مرحلة الجزء الأول من فترة حكم السلطان مصطفى الثالث، وهي نهاية عهد الثبات النسبي، وبداية الدخول في مرحلة «الانهيار الخفي»، وهذه الأحوال في البلاد العربية كان لها إسهام كبير في هذا الانهيار.
في الستينيات من القرن الثامن عشر كانت أحوال البلاد العربية كالآتي:
في مصر كانت هناك صراعات كثيرة للوصول إلى منصب شيخ البلد الخاص بالقاهرة العاصمة، وهذا المنصب يشغله أحد المماليك، ويعتبر شاغله هو الحاكم الفعلي للقطر كله[18]، وإن كان يتبع الباشا العثماني الذي يُعَيِّنه السلطان. في ظل ضعف القبضة العثمانية في هذه الفترة على الولايات البعيدة صار التنافس على كرسي شيخ البلد خارجًا عن سيطرة الباشا العثماني[19]. في عام 1767م وصل إلى هذا الكرسي أحد المماليك الأقوياء اسمه علي بك الكبير. لم يقنع هذا المملوكي القوي برئاسة مصر كتابع للدولة العثمانية؛ إنما أعلن استقلاله بها[20]! وفي عام 1768م خَلَع الباشا العثماني[21]. سيحكم هذا الرجل مصر ستة أعوام، أي إلى عام 1773م، وسيضم إليها قطاعات أخرى من الدولة العثمانية، كالسودان، والحجاز، والشام[22]، وسيتعاون مع الروس ضد العثمانيين[23].
في شمال فلسطين كان ظاهر العمر يحكم مستقلًّا عن الدولة العثمانية، وفي هذه الفترة، ستينيات القرن الثامن عشر، أعاد تجديد ميناء حيفا، كما جعل عكا أحد مراكز تجارة القطن المهمة مع أوروبا[24]، وذلك بعيدًا عن سيطرة العثمانيين.
في جبل لبنان كان الشهابيون يحكمون كمستقلين عن العثمانيين كذلك[25]! ومع أن أصول الشهابيين تعود إلى قبيلة بني مخزوم القرشية[26] إلا أن ديانتهم كانت غريبة وغير مفهومة! لقد تحالفوا مع الدروز في آخر القرن السابع عشر عن طريق التزاوج والاختلاط، فغيَّر ذلك شيئًا من عقيدتهم، ثم تنصَّر قطاع كبير منهم في منتصف القرن الثامن عشر على مذهب الموارنة المنتشر في المنطقة[27]. هكذا صار دينهم الحقيقي غير معروف على وجه اليقين لأي مؤرخ. كان جبل لبنان في هذه الفترة تحت حكم الأمير منصور الشهابي[28].
كانت الحجاز تابعة للدولة العثمانية بشكل مباشر، ومع ذلك كان من المتعارف عليه أن الدعم العسكري، والاقتصادي، يأتي لها عادة من مصر، وهذا يعني أن استقلال مصر قد يتبعه ضياع الحجاز، بمدينتيه المقدستين مكة والمدينة، من الدولة العثمانية، وهذا ما سيحدث بالفعل عام 1770م[29]!
كانت العراق -كما مرَّ بنا- تحت حكم مماليك العراق الذين لم يُعْلِنوا الاستقلال الرسمي، ولكنهم يديرون أمورهم بعيدًا عن سيطرة الدولة العثمانية، حيث لم تكن تُعَيِّن باشاوات على الولايات العراقية كما كانت تفعل من قبل. كان الحاكم المملوكي على العراق في هذا الوقت هو عمر باشا[30]، وكان يملك صلاحيات مطلقة، إلى درجة أنه منح شركة الهند الشرقية البريطانية في عام 1763م مركزًا في البصرة، دون الرجوع للدولة العثمانية، مع أن هذه علاقات دولية لها تأثير مباشر على السياسة الخارجية العثمانية[31]. في سنة 1764م اضطرت الدولة العثمانية إلى الاعتراف بهذه الشركة على أنها قنصلية مشمولة بنظام الامتيازات[32]. كان هذا المركز سببًا في بداية السيطرة الإنجليزية على الخليج العربي، ومن ثم احتلاله.
الوضع في ولايات الشمال الإفريقي كان على حاله منذ بداية القرن، والذي شرحناه قبل ذلك؛ استقلال غير رسمي، وانفصال غير معلن. الجزائر كانت تحت حكم الدايات، وتونس تحت حكم الحسينيين، أما ليبيا فكانت تحت حكم القرمانليين. هذه الحكومات كانت تمارس حكمها بشكل منفصل تمامًا عن الدولة العثمانية، وكان الأمر يصل إلى شنِّ الحروب، أو عقد المعاهدات الدولية، وكان هذا يتم مع كل دول العالم بلا استثناء، بما فيها الدول ذات العلاقة المباشرة مع الدولة العثمانية، بمعنى أن هذه الولايات قد تحارب صديقًا للعثمانيين، وقد تعاهد عدوًّا لهم! هذا كله وهم غير مستقلين رسميًّا عن الدولة العثمانية، ولا يخفى ما يمكن أن يحدث من اضطراب سياسي ودبلوماسي نتيجة هذه الممارسات.
أما اليمن فهي مستقلة عن الدولة العثمانية بشكل رسمي منذ عام 1636م.
لم يبقَ من الدول العربية داخلًا في السيطرة العثمانية الحقيقية في ستينات القرن الثامن عشر إلا الولايات السورية، وتحديدًا، دمشق وحلب!
هذا الوضع كان يحمل أخطارًا كبيرة لم يكن يراها معظم المعاصرين آنذاك من السياسيين، والعلماء، وعامة الشعب. كان الوضع يحتاج لنظرة عميقة لإدراك كارثيته، ويبدو أن أصحاب النظرة العميقة في الدولة في هذه الفترة كانوا قلة!
التصعيد مع روسيا ونهاية حقبة:
منذ تولَّت كاترين الثانية حكم روسيا وهي تضع نصب عينيها الوصول إلى البحر الأسود، ولكنها كانت تعلم أن قوة الدولة العثمانية متوازنة مع قوتها في ذلك الوقت، ويشهد على ذلك حالة السلم الحقيقية التي عاشتها الدولتان منذ عام 1739م بعد توقيع معاهدة نيش. أرادت كاترين الثانية أن ترجِّح كفة بلادها عن طريق أمور كثيرة كان منها محاولة التدخل في شئون بولندا لتُضاف قوتها إلى قوة الروس. كان هذا التدخل مخالفًا لمعاهدة بروت 1711م. مات أوجست الثالث ملك بولندا في عام 1764م، فاستخدمت كاترين الثانية نفوذها لتغيير الدستور البولندي لتتمكن من وضع صديقها استانيسلاڤ بونياتوڤسكي Stanisław Poniatowski على عرش بولندا[33].
هكذا صارت بولندا تحت السيطرة الروسية. لم تأخذ الدولة العثمانية ردَّ فعل مناسب تجاه هذه المسألة، وإن كان قد بدا واضحًا أن روسيا تتجهز لحرب كبرى ضد العثمانيين، حيث إن سيطرتها على بولندا ستسمح لها بمحاربة الدولة العثمانية في جبهات جديدة غير جبهة القرم المعتادة. تزامن مع هذه السيطرة الروسية على بولندا إعداد عسكري كبير للجيش الروسي، كما تمَّ زيادة سفن الأسطول، وعقدت الإمبراطورة الروسية معاهدات مهمة مع بريطانيا لتدريب جنود البحرية، في مقابل تصدير مواد خام مهمة لها[34].
لم يقف جهد كاترين الثانية عند ذلك؛ إنما عقدت معاهدة عجيبة مع بروسيا! وجه العجب أن بروسيا كانت تعادي روسيا بشدة، ويتنافس الاثنان على بولندا، كما أن بروسيا عقدت سابقًا معاهدة دفاع مشترك -كما مرَّ بنا- مع الدولة العثمانية عام 1761م، والعدو المرتقب الذي يمكن للعثمانيين أن يحاربوه هو روسيا، فجاءت معاهدة بروسيا مع روسيا مناقضةً لمعاهدتها مع الدولة العثمانية، ولكن هكذا كانت المصالح تتحكم في علاقات الدول. أرادت بروسيا أن تأخذ دعم روسيا في ضمِّ إقليم سيلزيا من النمسا، في مقابل دعمها لروسيا إذا حاربت النمسا أو الدولة العثمانية! كانت هذه التطورات تحدث في عام 1764م[35]، ومع ذلك مرت أربع سنوات كاملة دون أن تلتفت الدولة العثمانية إلى تنظيم جيشها، وحدودها، وعلاقاتها الدبلوماسية مع القوى العالمية، بشكل يوازي، أو يقترب، من الإعداد الروسي.
في عام 1768م خشيت فرنسا والنمسا من تطور التدخل الروسي في بولندا فأوعزتا إلى الدولة العثمانية أن تدخل الحرب ضد روسيا وبروسيا، فقبل السلطان بحرب روسيا ورفض حرب بروسيا لإعجابه بزعيمها[36]! لم تهدف فرنسا والنمسا بطبيعة الحال إلى مصلحة الدولة العثمانية، ولكن إلى تحقيق مصالحهما فقط، ولذلك لم تكن عندهما نية المساعدة الحقيقية لها في حربها المرتقبة ضد الروس، أما السلطان مصطفى الثالث فقد نظر إلى الأمور بسطحية، ولم يقدِّر للوضع قدره، ومن ثم أعجبته فكرة حرب روسيا دون دراسة جادة على أرض الواقع، ظانًّا أن الأمر لن يعدو أن يكون مناوشات ستكون في صالحه فيما يرى. يبدو أن السلطان مصطفى الثالث لم يتابع التقدُّم الكبير الذي حققه الجيش والأسطول الروسيان بعد ولاية كاترين الثانية، ولم ينتبه إلى أن جيشه لم يحارب منذ عام 1739م على الجبهات الأوروبية، ولم يحارب منذ عام 1746م على الجبهة الإيرانية، يعني أن الجيش العثماني لم يخُضْ قتالًا منذ اثنين وعشرين عامًا. هذه أطول فترة سلام في تاريخ الدولة العثمانية العسكرية. فَقَدَ الجنود قوتهم، وطاقاتهم، ومهارتهم، وفَقَدَ القادة قدراتهم التخطيطية والقيادية.
صار الفارق ملحوظًا بين الجيشين الروسي والعثماني. -أيضًا- لم يفهم السلطان طريقة الأوروبيين في تعاملاتهم الدبلوماسية. إن العهود والعقود لم تكن تعني عندهم ارتباطًا قانونيًّا وأخلاقيًّا «يتحتَّم» الالتزام به؛ إنما كانت تعني تحقيق مصلحة معينة، فإذا ظهرت مصلحة أكبر ألقوا بالعهود والعقود خلف ظهورهم دون أي تردد. هكذا فعل ملك بروسيا فردريك «العظيم»! عقد مع الدولة العثمانية في عام 1761م معاهدة دفاع مشترك تستوجب حربه إلى جانبها ضد روسيا، ثم عقد بعدها بثلاث سنوات معاهدة دفاع مشترك مع روسيا تستوجب حربه إلى جانبها ضد الدولة العثمانية! هذا «الجهل» بالسياسة العالمية لا يُعْذَر فيه السلطان ولا رجال الدولة.
هذا يعني أن الدولة العثمانية ستدخل الحرب بلا أعوان، بينما نجد روسيا مدعومة ببولندا، وبريطانيا، ويُحتمل بروسيا، وقد نقلت بعض المصادر دعم بروسيا لروسيا بالمال أثناء حربها مع العثمانيين[37]. من ناحية أخرى لم يحسب السلطان ورجاله حساب الانفلات الكبير للدول العربية من سيطرة الدولة العثمانية، وهذا قد يكون له عواقب وخيمة على الوضع السياسي والعسكري أثناء الحرب. سيقود هذا الانفلات إلى تشتيت الجيش العثماني في جبهات مختلفة، وقد يتعاون المنقلبون مع العدو بشكل مباشر. -أيضًا- لا ينبغي للعثمانيين أن ينسوا أن معظم سواحل البحر المتوسط الشرقية والجنوبية صارت تحت حكم هؤلاء المنشقين! سواحل لبنان مع الشهابيين، وسواحل فلسطين مع ظاهر العمر، وسواحل مصر مع علي بك الكبير، وسواحل ليبيا، وتونس، والجزائر، مع حكام هذه البلاد منذ عقود. هذا سيحرم الأسطول العثماني من قواعد إمداد مهمة، وقد تمثل موانئ هذه الأقطار عونًا للأعداء! أخيرًا لم يتابع العثمانيون باهتمام ما يحدث في إيران في هذا الوقت. إن ظهور كريم خان، وتأسيس الدولة الزندية، قد يحمل أخطار التوسع الإيراني في الأناضول أو العراق، وقد يتطلَّب الأمر وجود جيش عثماني ثابت في هذه المناطق الشرقية، مما قد يضعف من صلابة القوات المسلحة بشكل عام.
في ظل هذه الملابسات كان الأولى بالسلطان أن يسعى لتجنب الحرب أو تأجيلها، لا أن يسعى لإشعالها. نعم لن يترك الروسُ العثمانيين، والحرب حتميَّةٌ بينهما، لكون الروس حريصين تمامًا على الوصول إلى البحر الأسود، بل إلى البحر الأبيض، ولن يكون هذا إلا بصدام عسكري مع الدولة العثمانية، لكن دور القيادة السياسية العثمانية أن تتخير الوقت المناسب للصدام، وأن تسعى بكل وسيلة لاختيار الوقت الأنسب لجيشها، حتى يمكنها الوصول لأفضل النتائج.
قادت الظروف إلى ما كان السلطان مصطفى الثالث يرغب فيه! في فبراير 1768م في بولندا نظَّم مجموعة من النبلاء ثورةً ضدَّ الحكم البولندي الموالي لروسيا. كانت هذه الثورة في مدينة بار Bar في إقليم بودوليا Podolia القريب جدًّا من الحدود العثمانية (في أوكرانيا الآن). في 20 يونيو 1768 تمكن الجيش الروسي، الذي كان قد اقتحم بولندا سابقًا، من الإمساك بقلعة بار، وعندما فرت فرقة من البولنديين المحاصَرين إلى الحدود العثمانية تبعتهم الجيوش الروسية لفترة داخل الأرض العثمانية[38] مما يمثِّل خرقًا للمعاهدات بين البلدين. أوعز السلطان مصطفى الثالث إلى كريم كيراي خان تتار القرم أن يدفع الأمور إلى الأسوأ حتى يجد الحُجَّة الرسمية القوية لإعلان الحرب! هاجم كريم كيراي قوزاق أوكرانيا الموالين للروس[39]، فردُّوا باقتحام مدينة بالطة Balta العثمانية (في أوكرانيا الآن)، مع ذبح معظم أهلها[40][41].
تُقَدِّر بعض المصادر القتلى المسلمين بألف إنسان[42]! أرسلت الدولة العثمانية احتجاجًا إلى روسيا[43] التي أنكرت علاقتها بالأمر، أو معرفتها به، لكن السلطان، مدفوعًا بالسفير الفرنسي، والنبلاء البولنديين، وحزب الحرب في الدولة[44]، أعلن في 8 أكتوبر 1768م الحرب على روسيا[45]، لتبدأ الحرب الروسية العثمانية الكارثية التي ستستمر ست سنوات (1768-1774م)، والتي ستمثِّل بدايتها نهاية حقبة «الثبات النسبي»، وبداية حقبة «الانهيار الخفي»[46].
[1] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م. صفحة 226.
[2] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 356.
[3] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م.1/627.
[4] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. صفحة 529.
[5] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 46.
[6] Şakul, Kahraman: Mustafa III (b. 1717–d. 1774) (r. 1757–1774), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009., p. 411.
[7] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 329.
[8] Varlik, Nükhet: Plague in The Islamic World, 1500–1850, In: Byrne, Joseph Patrick: Encyclopedia of Pestilence, Pandemics, and Plagues, Greenwood Publishing Group, Westport, Connecticut, USA, 2008., vol. 2, p. 519.
[9] سرهنك، 1895 صفحة 1/627.
[10] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م. صفحة 37/77.
[11] بروكلمان، 1968 صفحة 529.
[12] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م. صفحة 306.
[13] Peucker, Mario & Akbarzadeh, Shahram: Muslim Active Citizenship in the West, Routledge, New York, USA, 2014., p. 15.
[14] ديورانت، 1988 الصفحات 41/45، 46.
[15] Catherine the Great: The Memoirs of Catherine the Great, Translated: Markus Cruse Hilde Hoogenboom, Random House Publishing Group, 2007., pp. 11-23.
[16] Strickland, John: Catherine II: Empress of Russia 1729-1796, In: Del Testa, David W.; Lemoine, Florence & Strickland, John: Government Leaders, Military Rulers and Political Activists, Oryx Press, Westport, Westport, Connecticut, USA, 2001., p. 33.
[17] Nagle, Jeanne: Top 101 World Leaders, The Rosen Publishing Group, New York, USA, 2014., pp. 27-28.
[18] زيدان، جُرجي: مصر العثمانية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012م. الصفحات 103، 104.
[19] Chisholm, Hugh & Garvin, James Louis: The Encyclopædia Britannica: A Dictionary of Arts, Sciences, Literature & General Information, Cambridge University Press, Cambridge, UK, Eleventh Edition, 1911, vol. 9, pp. 92-127.
[20] زيدان، 2012 صفحة 123.
[21] الجبرتي، عبد الرحمن بن حسن: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، (دون سنة طبع). الصفحات 1/362، 363.
[22] Chisholm & Garvin, 1911, vol. 9, pp. 92-127.
[23] زيدان، 2012 الصفحات 125، 127.
[24] Doumani, Beshara: Rediscovering Palestine: Merchants and Peasants in Jabal Nablus, 1700-1900, University of California Press, California, USA, 1995., pp. 98-99.
[25] Harris, William: Lebanon: A History, 600-2011, Oxford University Press, New York, USA, 2012., p. 120.
[26] الشدياق، طنوس يوسف: أخبار الأعيان في جبل لبنان، مكتبة العرفان، بيروت، 1954م. الصفحات 1/35، 36.
[27] Harris, 2012, pp. 109-113.
[28] الشدياق، 1954 صفحة 1/57.
[29] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م. صفحة 37.
[30] Farrokh, Kaveh: Iran at War: 1500-1988, Bloomsbury Publishing, 2011., p. 155.
[31] Amīn, Abd al-Amīr Muḥammad: British Interests in the Persian Gulf, Brill Archive, Leiden, Netherlands, 1967., pp. 68-90.
[32] لوريمر، ج . ج.: دليل الخليج، قسم الترجمة–مكتب أمير دولة قطر، قطر، (دون سنة طبع). صفحة (القسم التاريخي) 1/227.
[33] سرهنك، 1895 صفحة 1/628.
[34] Kaplan, Herbert H.: Russian Overseas Commerce with Great Britain During the Reign of Catherine II, American Philosophical Society, Philadelphia, USA, 1995.. pp. 8-9.
[35] Clark, Christopher M.: Iron kingdom: the rise and downfall of Prussia, 1600–1947, Penguin Books, New York, USA, 2006., p. 215.
[36] كامل، مصطفى: المسألة الشرقية، مطبعة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1898م. صفحة 25.
[37] Kański, Jack J.: Giants of European History: A Concise Outline, Troubador Publishing Ltd, Leicester, UK, 2018., p. 121.
[38] Kopczewski, Jan Stanislaw: Kosckiuszko and Pulaski, Interpress Publishers, Warsaw, Poland, 1976., pp. 85-87.
[39] سرهنك، 1895 صفحة 1/217.
[40] Sicker, Martin: The Islamic World in Decline: From the Treaty of Karlowitz to the Disintegration of the Ottoman Empire, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 2001 (A).pp. 69-70.
[41] حليم، إبراهيم: التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية، مطبعة ديوان عموم الاوقاف، القاهرة، الطبعة الأولى، 1323هـ=1905م. صفحة 169.
[42] Davies, Brian L.: The Russo-Turkish War, 1768-1774: Catherine II and the Ottoman Empire, Bloomsbury Publishing, New York, USA, 2016., p. 12.
[43] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 1/629.
[44] Davies, 2016, pp. 12-13.
[45]Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lv.
[46] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 861- 871.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك